ميمية ابن القيم
للإمام العلامة
محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد
شمس الدين ابن قيم الجوزية
المتوفى سنة 751هـ
رحمه الله تعالى
* * *
إذا طَلَعَتْ شمسُ النهارِ فإنَّها * * * أمَارَة تسْلِيمي عليكمْ فسَلّمُوا
سلامٌ مِن الرحمَنِ في كلِّ سَاعة * * * ورَوْحٌ ورَيْحانٌ وفضْلٌ وأنْعُمُ
عَلى الصَّحْبِ والإخْوانِ والوِلْدِ والأُلىَ * * * دَعَوْهم بإحْسَانٍ فجَادُوا وأنْعَمُوا
وسائرِ مَن للسُّنَّةِ المَحْضةِ اقتَفى * * * ومَا زاغ عنها فهو حَقٌّ مُقدَّمُ
أولئكَ أتباعُ النبيِّ وحِزْبُهُ * * * ولوْلاهُمُ ما كان في الأرضِ مُسْلِمُ
ولوْلاهُمُ كادَتْ تَمِيدُ بأهْلِهَا * * * ولكنْ رَوَاسِيها وأوْتادُها هُمُ
ولوْلاهُمُ كانتْ ظلامًا بِأهْلِها * * * وَلكنْ هُمُ فِيها بُدُورٌ وَأنْجُمُ
أولئكَ أصْحَابي فحَيَّ هَلًا بهِمْ * * * وحَيَّ هَلًا بالطيِّبينَ وأنعِمُ
لِكُلِّ امْرِئ ٍمنهم سَلامٌ يَخُصُّهُ * * * يُبَلِّغُه الأدنَى إليهِ وَينعَمُ
فيَا مُحْسِنًا بَلغْ سَلامِي وَقُلْ لهُمْ * * * مُحِبُّكُمُ يَدْعُو لكُم وَيُسَلِّمُ
ويَا لائِمِي فِي حُبِّهُمْ وَوَلائِهمْ * * * تأمَّلْ هَدَاكَ اللهُ مَنْ هُوَ ألْوَمُ
بأيِّ دَلِيلٍ أمْ بأيَّةِ حُجةٍ * * * ترَى حُبَّهُمْ عَارًا عَليَّ وَتنقِمُ
ومَا العارُ إلا بُغْضُهُمْ وَاجْتِنابُهُمْ * * * وَحُبُّ عِدَاهُم ذاكَ عارٌ ومَأثمُ
أمَا وَالذِي شقَّ القلوبَ وأوْدَعَ الْـ * * * مَحَبَّة فيها حيثُ لا تَتصَرَّمُ
وحَمَّلها قلبَ المُحِبِّ وإنَّهُ * * * ليَضْعُفُ عنْ حَمْلِ القميصِ وَيَألمُ
وَذللها حتى اسْتكانَتْ لِصَوْلةِ الْـ * * * مَحَبَّةِ لا تلوي ولا تتلعْثمُ
وذَلَّلَ فيها أنفُسًا دُونَ ذلِّها * * * حِياضُ المَنايا فوقَها وَهْيَ حُوَّمُ
لأنْتُمْ عَلى قرْبِ الدِّيارِ وبُعْدِها * * * أحِبَّتُنا إنْ غِبْتُمُوا أو حَضَرْتُمُ
سَلُوا نَسَمَاتٍ الرِّيحِ كم قدْ تحمَّلتْ * * * مَحَبَّةَ صَبٍّ شوْقُهُ ليْس يُكْتَمُ
وشاهِدُ هذا أنَّها في هُبُوبِها * * * تكادُ تبُثُّ الوَجْدَ لوْ تتكَلمُ
وَكُنتُ إذا ما اشْتدَّ بي الشوقُ والجَوَى * * * وكادَتْ عُرَى الصَّبر الجَمِيلِ تَفَصَّمُ
أعَللُ نَفْسِي بالتَّلاقي وَقُرْبِهُ * * * وأُوهِمُها لَكِنَّهَا تَتوَهَّمُ
وأتْبعُ طرْفِي وِجْهَةً أنتُمُ بها * * * فلِي بحِمَاها مَرْبَعٌ ومُخَيَّمُ
وَأذْكُرُ بَيْتا قالهُ بعضُ مَن خَلا * * * وَقدْ ضلَّ عَنْهُ صبُرُهُ فهُوَ مُغْرمُ
أسَائِلُ عَنكُمْ كلَّ غادٍ ورائحٍ * * * وأومِي إلى أوطانِكُم وأسَلِّمُ
وكمْ يَصْبِرُ المُشتاقُ عمَّن يُحِبُّهُ * * * وفِي قلبِهِ نارُ الأسَى تتضَرَّمُ*
أمَا وَالذِي حَجَّ الْمُحِبُّونَ بَيْتَهُ * * * وَلبُّوا لهُ عندَ المَهَلِّ وَأحْرَمُوا
وقدْ كَشفُوا تِلكَ الرُّؤوسَ توَاضُعًا * * * لِعِزَّةِ مَن تعْنو الوُجوهُ وتُسلِمُ
يُهِلُّونَ بالبيداءِ لبيك ربَّنا * * * لكَ المُلكُ والحَمْدُ الذي أنتَ تَعْلمُ
دعاهُمْ فلبَّوْهُ رِضًا ومَحَبَّةً * * * فلمَّا دَعَوهُ كان أقربَ منهمُ
ترَاهُمْ على الأنضاءِ شُعْثًا رؤوسُهُمْ * * * وغُبْرًا وهُمْ فيها أسَرُّ وأنْعَمُ
وَقدْ فارَقوا الأوطانَ والأهلَ رغبةً * * * ولم يُثنِهِمْ لذَّاتُهُمْ والتَّنَعُّمُ
يَسِيرونَ مِن أقطارِها وفِجاجِها * * * رِجالًا ورُكْبانًا وللهِ أسْلمُوا
ولمَّا رأتْ أبصارُهُم بيتَهُ الذي * * * قلوبُ الوَرَى شوقًا إليهِ تَضَرَّمُ
كأنهمُ لمْ يَنْصَبُوا قطُّ قبْلهُ * * * لأنَّ شَقاهُمْ قد ترحَّلَ عنْهُمُ
فلِلَّهِ كمْ مِن عَبْرةٍ مُهْرَاقةٍ * * * وأخرى على آثارِها لا تَقَدَّمُ
وَقدْ شَرِقتْ عينُ المُحِبِّ بدَمْعِها * * * فينظرُ مِن بينِ الدُّموعِ ويُسْجِمُ
إذا عَايَنَتْهُ العَيْنُ زالَ ظلامُها * * * وزالَ عن القلبِ الكئيبِ التألُّمُ
ولا يَعْرِفُ الطرْفُ المُعايِنُ حسْنَهُ * * * إلى أن يعودَ الطرْفُ والشوقُ أعْظمُ
ولا عجبٌ مِن ذا فحِينَ أضافهُ * * * إلى نفسِهِ الرحمنُ؛ فهو المعظَّمُ
كسَاهُ منَ الإجْلالِ أعظمَ حُلةٍ * * * عليها طِرازٌ بالمَلاحَةِ مُعْلَمُ
فمِنْ أجلِ ذا كلُّ القلوبِ تُحِبُّهُ * * * وتَخْضَعُ إجْلالا لهُ وتُعَظِّمُ
ورَاحُوا إلى التَّعْريفِ يَرْجُونَ رحمةً * * * ومغفرةً مِمَّن يجودُ ويُكرِمُ
فلِلهِ ذاكَ الموقفُ الأعظمُ الذي * * * كموقفِ يومِ العَرْضِ بلْ ذاكَ أعظمُ
ويدْنُو بهِ الجبّارُ جَلَّ جلالُهُ * * * يُباهِي بهمْ أمْلاكَه فهو أكرَمُ
يقولُ عِبادِي قدْ أتونِي مَحَبَّةً * * * وَإنِّي بهمْ بَرٌّ أجُودُ وأرْحَمُ
فأشْهِدُكُمْ أنِّي غَفَرْتُ ذنُوبَهُمْ * * * وأعْطيْتُهُمْ ما أمَّلوهُ وأُنْعِمُ
فبُشراكُمُ يا أهلَ ذا المَوقفِ الذِي * * * به يَغفرُ اللهُ الذنوبَ ويَرحمُ
فكمْ مِن عتيقٍ فيه كَمَّلَ عِتْقَهُ * * * وآخرَ يَسْتسعَى وربُّكَ أرْحَمُ
ومَا رُؤيَ الشيطانُ أغيظَ في الوَرَى * * * وأحْقرَ منهُ عندها وهو أَلْأَمُ
وَذاكَ لأمْرٍ قد رَآه فغاظَهُ * * * فأقبلَ يَحْثُو التُّرْبَ غَيْظا وَيَلْطِمُ
وما عاينتْ عيناه مِن رحمةٍ أتتْ * * * ومغفرةٍ مِن عندِ ذي العرْشِ تُقْسَمُ
بَنَى ما بَنى حتى إذا ظنَّ أنه * * * تمَكَّنَ مِن بُنيانِهِ فهو مُحْكَمُ
أتَى اللهُ بُنيَانًا له مِن أساسِهِ * * * فخرَّ عليه ساقطا يتهدَّمُ
وَكمْ قدْرُ ما يعلو البناءُ ويَنْتهي * * * إذا كان يَبْنِيهِ وذو العرش يهدِمُ
وراحُوا إلى جَمْعٍ فباتُوا بمَشعَرِ الْـ * * * ـحَرَامِ وصَلَّوْا الفجْرَ ثمَّ تقدَّموا
إلى الجَمْرةِ الكُبرَى يُريدون رَمْيَها * * * لوقتِ صلاةِ العيدِ ثمَّ تيَمَّمُوا
منازلَهمْ للنحْرِ يَبغونَ فضلَهُ * * * وإحياءَ نُسْكٍ مِن أبيهمْ يُعَظَّمُ
فلوْ كان يُرضِي اللهَ نَحْرُ نفوسِهمْ * * * لدانُوا بهِ طوْعًا وللأمرِ سلَّمُوا
كما بَذلُوا عندَ الجِهادِ نُحورَهُمْ * * * لأعدائِهِ حتَّى جرَى منهمُ الدَّمُ
ولكنَّهمْ دانُوا بوضْعِ رؤوسِهمْ * * * وذلِكَ ذلٌّ للعبيدِ ومَيْسَمُ
ولمَّا تقضَّوْا ذلكَ التَّفَثَ الذِي * * * عليهمْ وأوْفَوا نذرَهُمْ ثمَّ تَمَّمُوا
دعاهُم إلى البيتِ العتيقِ زيارةً * * * فيَا مرحَبًا بالزائِرين وأكرمُ
فلِلهِ ما أبْهَى زيارتَهُمْ لهُ * * * وقدْ حُصِّلتْ تلكَ الجَوائزِ تُقْسَمُ
وَللهِ أفضالٌ هناكَ ونِعْمَةٌ * * * وبِرٌّ وإحْسَانٌ وجُودٌ ومَرْحَمُ
وعادُوا إلى تلكَ المنازلِ مِن مِنَى * * * ونالُوا مناهُمْ عندَها وتَنَعَّمُوا
أقامُوا بها يومًا ويومًا وثالثًا * * * وأُذِّنَ فِيهمْ بالرحيلِ وأُعْلِمُوا
وراحُوا إلى رمْيِ الجمارِ عَشِيَّةً * * * شعارُهُمُ التكْبيرُ واللهُ معْهُمُ
فلو أبْصرَتْ عيناكَ موقفَهمْ بها * * * وَقدْ بسَطوا تلكَ الأكفَّ لِيُرْحَمُوا
ينادونَهُ يا ربِّ يا ربِّ إننا * * * عبيدُكَ لا ندْعو سواكَ وتَعْلمُ
وها نحنُ نرجو منكَ ما أنتَ أهلُهُ * * * فأنتَ الذي تُعْطِي الجزيلَ وتُنْعِمُ
ولمَّا تقضَّوْا مِن مِنًى كلَّ حاجةٍ * * * وسالتْ بهمْ تلكَ البِطاحُ تقدَّموا
إلى الكعبةِ البيتِ الحَرامِ عشيةً * * * وطافُوا بها سبْعًا وصَلوْا وسَلَّمُوا
ولمَّا دَنا التوْدِيعُ منهمْ وأيْقنُوا * * * بأنَّ التدَانِي حبْلُهُ مُتَصَرِّمُ
ولمْ يبقَ إلا وقفةٌ لِمُوَدِّعٍ * * * فلِلهِ أجفانٌ هناكَ تُسَجَّمُ
وللهِ أكبادٌ هنالِكَ أُودِعَ الْـ * * * ـغرامُ بها فالنارُ فيها تَضرَّمُ
وللهِ أنفاسٌ يكادُ بحَرِّها * * * يذوبُ المُحِبُّ المُسْتهَامُ المُتيَّمُ
فلمْ ترَ إلا باهِتًا مُتَحَيِّرًا * * * وآخرَ يُبْدِي شجوَهُ يَترَنَّمُ
رَحَلتُ وأشْواقِي إليكمْ مُقِيمَةٌ * * * ونارُ الأسَى مِنِّي تَشُبُّ وتَضْرِمُ
أوَدِّعُكُمْ والشوقُ يُثنِي أعِنَّتِي * * * وقلبيَ أمْسَى فِي حِماكُمْ مُخَيِّمُ
هنالِكَ لا تَثْريبَ يومًا عَلىَ امرئٍ * * * إذا ما بَدا منهُ الذي كانَ يَكْتُمُ
فيَا سائِقينَ العِيسَ باللهِ ربِّكمْ * * * قِفوا لِي على تلكَ الرُّبوعِ وسَلِّمُوا
وقولوا مُحِبٌّ قادهُ الشوقُ نحوكُمْ * * * قضَى نحبَهُ فيكُمْ تَعِيشُوا وَتسْلمُوا
قضَى اللهُ ربُّ العرشِ فيمَا قضَى بهِ * * * بأنَّ الهوَى يُعمِي القلوبَ ويُبْكِمُ
وحُبُّكُمُ أصْلُ الهَوَى ومَدَارُهُ * * * عليهِ وفوزٌ للمُحِبِّ ومَغْنَمُ
وتفنَى عِظامِ الصَّبِّ بعدَ مَماتِهِ * * * وأشواقُهُ وقْفٌ عليهِ مُحَرَّمُ
فيَا أيُّها القلبُ الذي مَلكَ الهَوَى * * * أزِمَّتَهُ حتى مَتى ذا التلوُّمُ
وحَتَّامَ لا تصْحُو وقدْ قرُبَ المَدَى * * * ودُنّتْ كُؤوسُ السَّيْرِ والناسُ نوَّمُ
بَلى سوفَ تصحُو حين ينكشفُ الغَطا * * * ويبدو لكَ الأمرُ الذي أنتَ تكتُمُ
ويا مُوقِدًا نارًا لغيركَ ضوؤُها * * * وحرُّ لَظاها بينَ جنْبَيْك يَضرِمُ
أهذا جَنَى العلمِ الذي قد غرستَهُ * * * وهذا الذي قد كنتَ ترجوهُ يُطْعِمُ
وهذا هو الحظُّ الذي قد رضيتَهُ * * * لِنفسكَ في الدارَيْنِ جاهٌ ودِرهمُ
وهذا هو الرِّبحُ الذي قد كسبتَهُ * * * لَعمرُكَ لا رِبحٌ ولا الأصلُ يَسْلَمُ
بَخِلتَ بشيءٍ لا يضرُّكَ بذلُهُ * * * وجُدْتَ بشيءٍ مثلُهُ لا يُقَوَّمُ
بَخِلتَ بذا الحظِّ الخسِيسِ دناءةً * * * وجُدْتَ بدارِ الخُلدِ لو كنتَ تَفهمُ
وبِعْتَ نعيمًا لا انقضاءَ له ولا * * * نظيرَ ببخْسٍ عن قليلٍ سيُعْدَمُ
فهلا عكستَ الأمرَ إنْ كنتَ حازمًا * * * ولكن أضعتَ الحزمَ لو كنتَ تعلَمُ
وتهدِمُ ما تَبنِي بكفِّك جاهدًا * * * فأنتَ مَدى الأيامِ تبنِي وتَهْدِمُ
وعندَ مرادِ الله تفنَى كمَيِّتٍ * * * وعندَ مرادِ النفسِ تُسْدِي وتُلْحِمُ
وعند خِلافِ الأمر تحتَجُّ بالقَضَا * * * ظهيرًا على الرحمن للجَبْرِ تزْعُمُ
تُنَزِّهُ منكَ النفسَ عن سوء فِعْلِها * * * وتعتِبُ أقدارَ الإلَهِ وتَظْلِمُ
تَحُلُّ أمورًا أحكمَ الشرعُ عَقْدَها * * * وتقصِدُ ما قد حلَّه الشرْعُ تُبْرِمُ
وتَفهمُ من قولِ الرسولِ خلافَ ما * * * أرادَ لأن القلبَ منك مُعجَّمُ
مطيعٌ لِداعِي الغَيِّ عاصٍ لِرُشْدِهِ * * * الى ربِّه يومًا يُرَدُّ ويَعلَمُ
مُضِيعٌ لأمرِ اللهِ قد غشَّ نفسَهُ * * * مُهينٌ لها أنَّى يُحَبُّ ويُكرَمُ
بطيءٌ عن الطاعاتِ أسرعُ للخَنَا * * * مِنَ السيلِ في مَجْرَاهُ لا يَتَقَسَّمُ
وتَزْعم معْ هذا بأنكَ عارفٌ * * * كذَبْتَ يقِينًا في الذي أنتَ تزعُمُ
وما أنتَ إلا جاهلٌ ثم ظالمٌ * * * وأنكَ بين الجاهلِينَ مُقَدَّمُ
إذا كان هذا نصحُ عبدٍ لنفسِهِ * * * فمَنْ ذا الذي منه الهُدَى يُتَعَلَّمُ
وفي مثلِ هذا الحالِ قد قال مَن مَضَى * * * وأحسنَ فيما قالَهُ المتَكلِّمُ
فإنْ كنْتَ لا تدرِي فتلكَ مُصيبةٌ * * * وإنْ كنتَ تَدْرِي فالمصيبةُ أعْظَمُ
ولو تُبْصِرُ الدنيا وراءَ سُتُورِها * * * رأيتَ خيَالًا في منامٍ سَيُصْرَمُ
كحُلمٍ بطيفٍ زار في النوم وانقضَى الـْ * * * ـمنامُ وراحَ الطيفُ والصبُّ مُغْرَمُ
وظِلٍّ أتتْهُ الشمسُ عند طلوعِها * * * سَيُقْلَصُ في وقتِ الزوالِ ويَفْصِمُ
ومُزْنَةِ صيفٍ طابَ منها مَقِيلُها * * * فولَّتْ سرِيعًا والحُرُورُ تَضَرَّمُ
ومَطْعَمِ ضيفٍ لذَّ منه مَسَاغُهُ * * * وبعدَ قليلٍ حالُهُ تلكَ تُعْلَمُ
كَذا هذهِ الدُّنيا كأحلامِ نائمٍ * * * ومِنْ بعدِها دارُ البقاءِ سَتُقْدِمُ
فجُزْها مَمَرًّا لا مقرًّا وكنْ بِها * * * غريبًا تَعِشْ فيها حمَيِدًا وتَسْلَمُ
أو ابنَ سبيلٍ قالَ في ظِلِّ دَوْحَةٍ * * * وراحَ وخلَّى ظِلَّها يَتَقَسَّمُ
أخا سَفَرٍ لا يستقرُّ قَرارُهُ * * * إلى أنْ يَرى أوطانَهُ ويُسَلِّمُ
فيا عجبًا! كمْ مَصْرَعٍ وَعَظَتْ بِهِ * * * بنِيها ولكنْ عن مَصارعِها عَمُوا
سقتْهمْ كؤوسَ الحُبِّ حَتى إذا نَشَوْا * * * سقتْهم كؤوسَ السُّمِّ والقومُ نُوَّمُ
وأعجبُ ما في العَبْدِ رؤيةُ هذه الـْ * * * ـعَظائِمِ والمغمورُ فيها مُتَيَّمُ
وما ذاك إلا أنَّ خمرةَ حُبِّها * * * لَتَسْلِبُ عقلَ المرءِ منه وتَصْلِمُ
وأعجبُ مِن ذا أن أحبَابَها الأُلى * * * تُهينُ ولِلأَعْدَا تُراعِي وتُكْرِمُ
وذلكَ بُرهانٌ على أنّ قدْرَها * * * جناحُ بعوضٍ أو أدقُّ وأَلْأَمُ
وحَسْبُكَ ما قال الرسولُ مُمَثِّلا * * * لها ولِدارِ الخُلدِ والحقُّ يُفهَمُ
كما يُدلِيَ الإنسانُ في اليمِّ أُصْبُعًا * * * ويَنْزِعهُا عنه فما ذاكَ يَغْنَمُ؟
ألا ليتَ شِعْري هلْ أبِيتَنَّ ليلةً * * * على حَذَرٍ مِنها وأمْريَ مُبْرَمُ
وهلْ أرِدَنْ ماءَ الحياةِ وأرْتَوِي * * * عَلى ظمإٍ مِن حوضِهِ وهوَ مُفْعَمُ
وهلْ تَبْدُوَنْ أعلامُها بعدَما سَفَتْ * * * على رَبْعِها تِلكَ السَّوافِي فَتُعْلَمُ
وهلْ أفرِشَنْ خدِّي ثَرَى عتَبَاتِهِمْ * * * خُضُوعًا لَهم كَيْما يَرِقُّوا ويَرْحَمُوا
وهلْ أرْمِيَنْ نفسِي طرِيحًا ببابِهم * * * وطَيْرُ منايا الحبِّ فوقي تُحَوِّمُ
فيا أسفِي تفنَى الحياةُ وتنقضي * * * وذا العتْبُ باقٍ ما بَقِيتُمْ وعِشْتُمُ
فما منكمُ بُدٌّ ولا عنكم غِنًى * * * ومالِيَ مِن صَبْرٍ فأسْلُوَ عنْكُمُ
ومَن شاءَ فلْيَغْضَبْ سواكُم فلا أذًى * * * إذا كنتمُ عن عبْدِكُمْ قدْ رَضِيتُمُ
وعُقْبَى اصْطِباري فِي هَواكُم حميدةٌ * * * ولكنها عنكمْ عِقابٌ ومَأثَمُ
وما أنا بالشاكي لما ترتَضونَهُ * * * ولكنَّنِي أرضَى به وأُسَلِّمُ
وحَسْبِي انْتِسابي مِن بُعَيْدٍ إلَيْكُمُ * * * ألا إنهُ حظٌّ عظيمٌ مُفْخَّمُ
إذا قيلَ هذا عبدُهُم ومُحِبُّهُم * * * تَهَلَّلَ بِشْرًا وجهُهُ يَتَبَسَّمُ
وها هو قد أبدَى الضراعةَ سائلًا * * * لكمْ بِلِسانِ الحالِ والقالِ مُعْلِمُ
أحِبَّتَهُ عَطْفًا عليهِ فإنهُ * * * لَفِي ظمأٍ والموردُ العَذْبُ أنْتُمُ
فَيَا ساهِيا في غمْرَةِ الجهلِ والهَوَى * * * صريعَ الأماني عن قَريبٍ ستَنْدَمُ
أفِقْ قد دَنا الوقتُ الذي ليْس بَعدَهُ * * * سِوى جنةِ أو حرِّ نار تضرَّمُ
وبالسُّنَّة الغرَّاء كنْ متمسِّكًا * * * هي العُرْوةُ الوُثقى التي ليْس تُفْصَمُ
تمَسَّكْ بها مَسْكَ البخيلِ بِمالِهِ * * * وعَضَّ عليها بالنواجِذِ تسْلَمُ
وَدَعْ عنكَ ما قد أحدثَ الناسُ بَعدَها * * * فمَرْتعُ هاتيكَ الحوادثِ أوْخَمُ
وهَيِّئْ جوابًا عندما تسمعُ النِّدا * * * مِن اللهِ يومَ العرضِ ماذا أجبْتُمُ؟
بِهِ رُسُلي لَمّا أتوْكُمْ فمَنْ يَكُنْ * * * أجابَ سِواهمْ سوف يُخْزَى ويَنْدَمُ
وخُذ مِن تُقى الرحمنِ أعظمَ جُنَّةٍ * * * ليومٍ بِهِ تبدو عَيَانًا جهنمُ
ويُنْصَبُ ذاكَ الجسرُ من فوق مَتْنِها * * * فهاوٍ ومَخدوشٌ وناجٍ مُسَلَّمُ
ويأتي إلَهُ العالمين لِوعْدِهِ * * * فيفْصِلُ ما بين العبادِ ويَحْكُمُ
ويأخذُ لِلمظلومِ ربُّكَ حَقَّهُ * * * فيا بُؤْسَ عَبْدٍ للخلائقِ يَظْلِمُ
ويُنْشَر دِيوانُ الحسابِ وتوضعُ الْـ * * * ـموازينُ بالقِسط الذي ليس يَظلِمُ
فلا مُجرمٌ يَخشَى ظُلامةَ ذرَّةٍ * * * ولا مُحسِنٌ مِن أجرِهِ ذاكَ يُهْضَمُ
وتشهَدُ أعضاءُ المسيءِ بما جَنَى * * * كذاكَ على فِيهِ المهيمنُ يَختِمُ
فيا ليْتَ شِعري كيفَ حالكُ عندَما * * * تطايَرُ كُتبُ العالمينَ وتُقسَمُ
أتأخذُ باليُمنَى كتابَكَ أمْ تَكُنْ * * * بِأخْرَى وراءَ الظَّهْرِ منكَ تُسَلَّمُ
وتقرأُ فيه كلَّ شيءٍ عمِلْتَهُ * * * فيُشْرِقُ منكَ الوَجْهُ أو هُوَ يُظْلِمُ
تقولُ كتابِي فاقرؤُوهُ فإنهُ * * * يُبَشِّرُ بالفوزِ العظيمِ ويُعْلِمُ
وإنْ تكنِ الأخرى فإنكَ قائلٌ * * * ألَا ليتنِي لَمْ أوتَهْ فهو مُغْرَمُ
فبادِر إذا مادام في العمر فُسْحَةٌ * * * وعَدْلُكَ مقبولٌ وصرْفُكَ قيِّمُ
وَجِدَّ وسارِعْ واغتَنِمْ زمَنَ الصِّبا * * * ففي زمن الإمْكانِ تسْعَى وتَغْنَمُ
وسِر مُسْرِعًا فالسَّيْرُ خلفَكَ مُسْرِعًا * * * وهيهاتَ ما منهُ مَفَرٌّ ومَهْزَمُ
فهُنَّ المنايا أيَّ وادٍ نَزَلْتَهُ * * * عليها القُدُومُ أو عليكَ ستَقْدَمُ
وَمَا ذاكَ إلا غيْرةً أن ينالَها * * * سِوَى كُفئِها والربُّ بالخَلْقِ أعْلَمُ
وإنْ حُجِبَتْ عنَّا بكلِّ كريهةٍ * * * وحُفَّتْ بما يؤذي النفوسَ ويُؤلِمُ
فَلِلهِ ما في حَشْوِها مِن مَسرَّةٍ * * * وأصنافِ لذَّاتٍ بِها نَتَنَعَّمُ
ولله بَرْدُ العيشِ بينَ خِيامِها * * * ورَوضاتِها والثغرُ في الروضِ يَبْسُمُ
فَلِلَّهِ واديها الذي هوَ موعدُ الْـ * * * ـمَزيدِ لِوَفدِ الحُبِّ لو كنتَ مِنهمُ
بِذيَّالِكَ الوادي يَهيمُ صَبابَةً * * * مُحِبٌّ يرى أن الصَّبابَةَ مغنَمُ
وَلله أفراحُ المُحِبين عندما * * * يُخاطِبُهُم مِن فوقِهم ويُسَلِّمُ
ولله أبصارٌ ترى اللهَ جَهرةً * * * فلا الضَّيْمُ يَغْشاها ولا هي تَسْأمُ
فيا نَظرةً أهْدَتْ إلى القلب نَضْرَةً * * * أمِنْ بَعْدِها يَسْلو المحُبُّ المتيَّمُ
وللهِ كمْ مِن خَيْرَةٍ لو تَبَسَّمَتْ * * * أضاءَ لَها نورٌ مِن الفَجْرِ أعظَمُ
فيَا لذةَ الأبْصارِ إنْ هِيَ أقبَلَتْ * * * ويا لذَّةَ الأسْماعِ حينَ تَكَلَّمُ
ويا خَجْلَةَ الغُصْنِ الرطيبِ إذا انْثَنَتْ * * * ويا خَجْلَةَ البَحرَيْنِ حين تَبَسَّمُ
فإن كنتَ ذا قلبٍ عليلٍ بِحُبِّها * * * فلم يبقَ إلا وصْلُها لكَ مَرْهَمٌ
ولا سِيَّما في لَثْمِها عندَ ضمِّها * * * وقد صارَ منها تحتَ جيدِكَ مِعْصَمُ
يَراها إذا أبْدَتْ لهُ حُسْنَ وجْهها * * * يلذُّ بِها قبلَ الوِصالِ ويَنْعَمُ
تفَكَّهُ منها العينُ عند اجتِلائِها * * * فواكهَ شتَّى طلعُها ليس يُعْدَمُ
عناقِدَ مِن كرْمٍ وتُفّاحَ جنَّةٍ * * * ورُمانَ أغْصانٍ بِها القلبُ مُغْرَمُ
ولِلوَرْدِ ما قدْ أُلْبِسَتْهُ خُدودُها * * * ولِلخَمْرِ ما قد ضمَّهُ الرِّيقُ والفَمُ
تَقَسَّمَ منها الحُسْنُ في جَمْعِ واحِدٍ * * * فيَا عَجَبًا مِن واحِدٍ يَتَقَسَّمُ
تُذكِّرُ بالرحمنِ مَن هو ناظرٌ * * * بجملتِها أنَّ السُّلُوَّ مُحَرَّمُ
لَها فِرَقٌ شَتَّى مِنَ الحُسْنِ أُجْمِعَتْ * * * فينطِقُ بالتَّسبيحِ لا يَتَلَعْثَمُ
إذا قابلتْ جيشَ الهُمومِ بِوجْهها * * * تولىَّ على أعقابِه الجيشُ يُهْزَمُ
ولَمّا جرَى ماءُ الشبابِ بِغُصْنِها * * * تَيَقَنّ حقًّا أنَّهُ ليسَ يُهْزَمُ
فيَا خاطبَ الحسْناءِ إنْ كُنْتَ راغِبًا * * * فهذا زمانُ المَهْرِ فهو المقدَّمُ
وكنْ مُبْغِضًا للخائناتِ لحبِّها * * * فتحظى بِها مِن دونِهنَّ وتنعمُ
وكنْ أَيِّمًا ممَّن سواها فإنها * * * لِمثلكَ في جناتِ عدن تأيّمُ
وصمْ يومَك الأدْنى لعلكَ في غدٍ * * * تفوزُ بِعِيدِ الفِطْرِ والناسُ صُوَّمُ
وأقدِمْ ولا تقْنَعْ بعَيْشٍ مُنَغَّصٍ * * * فما فازَ باللذاتِ مَن ليس يقدمُ
وإن ضاقتِ الدنيا عليكَ بأسرِها * * * ولم يكُ فيها منزلٌ لكَ يُعلَمُ
فحيَّ على جناتِ عدْنٍ فإنَّها * * * منازلُكَ الأولى وفيها المخيَّمُ
ولكننا سَبْيُ العدوِّ فهل تَرَى * * * نعودُ إلى أوطانِنا ونَسْلَمُ
وقد زعموا أن الغريبَ إذا نأى * * * وشطَّتْ به أوطانُه فهو مؤلم
وأيُّ اغترابٍ فوق غربَتِنا التي * * * لها أضحتِ الأعداءُ فينا تَحَكَّمُ
وحيَّ على روضاتِها وخيامِها * * * وحيَّ على عيشٍ بها ليسَ يُسْأمُ
وحيَّ على السوقِ الذي فيه يلتقِي الْـ * * * ـمُحِبُّون ذاكَ السوق للقومِ يُعلَمُ
فما شئتَ خذْ منه بلا ثمنٍ له * * * فقد أسلفَ التجار فيه وأسلمُوا
وحيَّ على يومِ المزيدِ الذي به * * * زيارةُ ربِّ العرشِ فاليوم موسِمُ
وحيَّ على وادٍ هنالكَ أفْيَحٍ * * * وتُرْبَتُهُ مِن أذفرِ المِسكِ أعظَمُ
منابرُ مِن نورٍ هناك وفضةٍ * * * ومن خالِصِ العِقْيانِ لا تتفصَّمُ
ومِنْ حوْلِها كثبانُ مِسْكٍ مقاعدٌ * * * لمِن دونهم هذا العطاءُ المفخَّمُ
يرونَ به الرحمنَ جلَّ جلالُه * * * كرؤيةِ بدرِ التَّمِّ لا يُتَوَهَّمُ
وكالشمسِ صحْوًا ليس مِن دون أفْقِها * * * سحابٌ ولا غيمٌ هناكَ يغيّمُ
فبينا همُ في عيشِهِم وسرورِهم * * * وأرزاقُهُم تجرى عليهِمْ وتُقْسَمُ
إذا همْ بنور ساطعٍ قد بدا لهمْ * * * سلامٌ عليكم طبْتُم ونَعِمْتُمُ
سلامٌ عليكمْ يَسمعونَ جميعُهُم * * * بآذانِهم تسليمُهُ إذْ يُسَلِّمُ
يقولُ: سلوني ما اشْتَهَيْتُمْ فكلُّ ما * * * تُريدون عِندي إنني أنا أرْحَمُ
فقالوا جميعًا نحن نسألكَ الرِّضا * * * فأنتَ الذي تُولي الجميلَ وتَرْحَمُ
فيُعطيهمُ هذا ويُشهِدُ جَمْعَهمْ * * * عليهِ تعالى اللهُ فاللهُ أكرمُ
فَبِاللهِ ما عُذْرُ امرئٍ هو مؤمنٌ * * * بِهذا ولا يَسعى له ويقدّمُ؟
ولكنما التوفيقُ بالله إنَّهُ * * * يَخصُّ به مَنْ شاءَ فضلا ويُنْعِمُ
فيا بائِعًا هذا بِبَخْسٍ مُعَجَّلٍ * * * كأنكَ لا تدري بل سوفَ تَعْلَمُ
فقدِّمْ فدَتْكَ النفسُ نفسَكَ إنَّها * * * هي الثمنُ المَبْذولُ حين تُسَلِّمُ
وخُضْ غَمَراتِ الموتِ وارْقَ معارجَ الْـ * * * ـمحبَّةِ في مرضاتِهم تتسَنَّمُ
وسلِّمْ لَهُم ما عاقَدُوكَ عليهِ إنْ * * * تُرِدْ منهُمُ أنْ يَبْذُلُوا ويُسَلِّمُوا
فما ظفرتْ بالوصْلِ نفسٌ مَهِينَةٌ * * * ولا فازَ عبْدٌ بالبَطالَةِ يَنْعَمُ
وإنْ تكُ قد عاقَتْكَ سُعْدَى فقَلْبُكَ الْـ * * * ـمُعَنَّى رهينٌ في يَدَيْها مُسَلَّمُ
وقد ساعدتْ بالوَصْلِ غيرَكَ فَالْهَوَى * * * لها مِنْكَ والواشِي بِها يَتَنَعَّمُ
فدَعْها وسَلِّ النفسَ عنها بِجَنَّةٍ * * * من العِلْم في روضاتِها الحقّ يَبسُمُ
وقد ذُلِّلَتْ منها القُطُوفُ فمَنْ يُرِدْ * * * جَناها يَنَلْهُ كيفَ شاءَ ويَطْعَمُ
وقد فُتِحَتْ أبْوابُها وتَزَيَّنَتْ * * * لِخُطّابِها فالحسْنُ فيها مُقسّمُ
وقدْ طابَ منها نُزْلُها ونَزيلُها * * * فَطُوبَى لِمَنْ حلُّوا بِها وتنَعَّمُوا
أقامَ على أبوابِها داعِي الهُدَى * * * هَلُمُّوا إلى دارِ السّعادةِ تَغْنَمُوا
وقد غَرَسَ الرحمنُ فيها غِراسَهُ * * * مِن الناسِ والرحمنُ بالخَلْقِ أعْلَمُ
ومَن يَغْرِسِ الرحمنُ فيها فإنَّه * * * سعيدٌ وإلا فالشَّقاءُ مُحَتَّمُ
* * *